فصل: من فوائد صاحب المنار في الآية الكريمة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من لطائف وفوائد المفسرين:

.قال في ملاك التأويل:

قوله تعالى: {يا أيها اللناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء} وفى سورة الأعراف: {هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها} وفى سورة الزمر: {خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها} فيها ثلاث سؤالات، أحدها: الفرق بين الخلق والجعل، والثانى: وجه تخصيص الأخيرتين بجعل والأولى بخلق، والثالث: وجه ورود ثم في آية الزمر عوضا عن الواو.
والجواب عن الأول أن العبارة بخلق واردة على ما ينبغى وطابقة للمعنى المقصود وهو المراد بجعل إلا أن جعل ثانية عنها لتوقف الجعل على ما يتقدمه لأن العبارة بخلق تكون عند المتسرعين عن عدم سابق حيث لا تتقدم مادة ولا سبب محسوس واستيفاء الكلام هنا وتحرير التمثيل يطول وله مظان.
وأما الجعل فيتوقف على موجود مغاير للمجعول يكون منه المجعول أو عنه كالمادة والسبب، ولا يرد في الكتاب العزيز لفظ جعل في الأكثر مرادا به الخلق إلا حيث يكون فيله ما يكون عنه الجعل أو منه سببا فيه محسوسا عنه يكون ذلك المخلوق الثانى، بخلاف خلق فإن العبارة تقع كثيرا به عما لم يتقدم وجوده وجود مغاير يكون عنه الثانى، وقل ما تقع واحدة من العبارتين في القرآن على خلاف ما ذكرناه، قال تعالى: {الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور}.
وإنما الظلمات والنور عن أجرام توجد بوجودها وتعدم بعدمها.
أما السماوات والأرض فليست كذلك أعنى أنها لا ترتبط بموجود حادث توجد بوجوده وتعدم بعدمه وإن قلنا بتقدم مادة حسبما ورد في القرآن في قوله تعالى: {ثم استوى إلى السماء وهى دخان} في الخبر المذكور في خلقها وقال تعالى: {وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسى وأنهارا}، وقال تعالى: {وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون}، وفى هذه الآية والمتصلة بها قبلها شوب تصيير لتقارب المعنى في التصيير وما يكون عن المادة فقد لاح الفرق بين خلق وجعل ووجه تخصيص كل آية مما تقدم بالوارد فيها. وأما ورود جعل في آية الأعراف في قوله تعالى: {وجعل منها زوجها} فلما قصد هنا من معنى السكن وكأنه أريد نفى المغايرة تقريبا وتأنيسا لحصول الركون والسكن الذي جعله الله من آياته ونعمه لتستحكم سببية التناسل والتكثير فكانت جعل أوقع في هذا الغرض ثم إن الخبر وارد بخلق حواء من ضلع آدم فهذا نحو من المتقدم في سورة الأنعام وعبر في سورة النساء بخلق لمقصود الآية من التعريف بالأولية والابتداء ولمناسبة ما اتصل بها من قوله: {خلقكم} حتى يوافقه من اللفظ ما قصد من المعنى.
وأما الجواب عن السؤال الثالث:
وهو زيادة ثم في سورة الزمر فلما قصد من الامتنان والإنعام على الجنس الآدمى ولتفاوت ما بين الآيتين العجيبتين من خلق الصنف الإنسانى من شخص واحد وخلق زوجه فجئ بثم المنبهة على معنى الاعتناء بذكر ما عطف بها والتأكيد لشأنه للمزية على المعطوف عليه القائمة مقام التراخى في الزمان.
قال الزمخشرى: فإن قلت ما معنى قوله: {ثم جعل منها زوجها} وما تعطيه من معنى التراخى؟ قلت: هما آيتان من جملة الآيات التي عددها دالا على وحدانيته وقدرته وهما تشعب هذا الخلق الفائت للحصر وانتشاره من نفس آدم وخلق حواء من قصيراه إلا أن إحداهما جعلها الله عادة مستمرة والأخرى لم يجر بها العادة ولم تخلق أنثى غير حواء من قصيرى رجل فكانت أدخل في كونها آية وأجلب لعجب السامع فعطفها بثم على الآية الأولى للدلالة على مباينتها لها فضلا ومزية وتراخيها عنها فيما يرجع إلى زيادة كونها آية فهو من التراخى في الحال والمنزلة لا من التراخى في الوجود.
قلت وعلى هذا المأخذ يسقط الاعتراض بأن ثم قد تجرى مجرى الواو فلا تقتضى الترتيب الزمانى لزوما أما إذا قلنا إنها ترد لقصد التفاوت والتراخى الزمانى لزوما ولا تحتاج إلى انفصال عن ذلك الاعتراض ولا أن تقول: إن ثم قد تكون بمعنى الواو قلت ومن ورود ثم لما ذكرنا من تراخى الرتبة قوله جل وتعالى: {وإنى لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى} قال الزمخشرى: ومنه قوله تعالى: {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا}. وكلمة التراخى دلت على ثبات المنزلتين دلالتهما على تباين المرتبتين في جاءنى زيد ثم عمرو؟ أعنى أن منزلة الاستقامة على الخير مباينة لمنزلة الخير نفسه لأنها أعلى منها وأفضل ومنه قوله تعالى: {إنه فكر وقدر فقتل كيف قدر ثم قتل كيف قدر}، قال الزمخشرى:
إن قلت ما معنى ثم الداخلة في تكرير الدعاء قلت: الدلالة على أن الكرة الثانية أبلغ من الأولى ونحوه قوله:
ألا ياسلمى ثم اسلمى ثمت اسلمى

أنشده النحويون على إلحاق تاء التأنيث بثم وأنشده الزمخشرى ومثل ذلك: {ثم كان من الذين آمنوا} قال: جاء بثم لتراخى الإيمان وتباعده في الرتبة والفضيلة عن العتق والصدق لا في الوقت لأن الإيمان هو السابق المقدم على غيره ولا يثبت عمل صالح إلا به.
فثم حيث لا يقصد مهلة الزمان تحرز تنبيها على حال ما يعطف بها ومحله والإشارة إلى أنه بحيث أنه لو لم يذكر ما قبله لكان كافيا في المقصود هذا ما تحصله حيث لا يقصد مهلى الزمان فلما قصد في آية الزمر الإنعام والامتنان وتعداد ذلك تعظيما وتفخيما ورد بثم، فقال تعالى: {خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزاوج}.
فإن قلت: فقد كان الوجه على هذا أن لو قيل: ثم أنزل لكم من الأنعام قلت: هذه نعمة لا تفتقر لبيان أمرها إلى التنبيه بثم وليست موضع تغفل أو تخف وإنما موضع ثم حيث يراد الاعتناء والتنبيه على قدر المعطوف بها لاحتمال أن يخفى فإذا كان غير خاف وبين الاستقلال بنفسه لم يفتقر إلى هذا ومن حيث قصد معنى الامتنان كانت جعل أولى لما تقدم من معناها، فقد وضح ورود كل آية من الثلاث على ما يناسب المقصود من كل واحدة. اهـ.

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)}.
الناس اسم جنس، والاشتقاق فيه غير قوي. وقيل سمي الإنس إنسًا لظهوره فعلى هذه الإشارة: يا مَنْ ظهرتم عن كتم العَدَم بحكم تكليفي، ثم خصصتُ مَنْ شئتُ منكم بتشريفي، وحرمتُ من شئت منكم هدايتي وتعريفي، ونقلتكم إلى ما شئتُ بل أوصلتكم إلى ما شئت بحكم تصريفي.
ويقال لم أُظْهِرٍ منَ العَدَمِ أمثالكم، ولم أُظْهِرْ على أحدٍ ما أظْهَرٍتُ عليكم من أحوالكم.
ويقال سمِّيتَ إنسانًا لنسيانك، فإن نسيتني فلا شيء أَخَس منك، وإنْ نسيت ذكري فلا أحد أَحَط منك.
ويقال من نَسِيَ الحق فلا غاية لمحنته، ومن نسي الخَلْقَ فلا نهاية لعلوِّ حالته.
ويقال يقول للمُذْنِبين، يا مَنْ نسِيتَ عهدي، ورفضتَ ودي، وتجاوزت حدِّي حانَ لك أن ترجع إلى بابي، لتستحقَّ لطفي وإيجابي. ويقول للعارفين يا مَنْ نسيت فينا حظَّكَ، وصُتَ عن غيرنا لَحْظَكَ ولَفْظَك- لقد عظُم علينا حَقُّك، وَوَجَبَ لدينا نصرُك، وجلَّ عندنا قَدْرُك.
ويقال يا من أَنِستَ بنسيم قرْبي، واستروحتَ إلى شهود وجهي، واعتززت بجلال قَدْري- فأنت أجلُّ عبادي عندي.
قوله: {اتَّقُوا رَبَّكُمْ}: التقوى جماع الطاعات، وأوله ترك الشِّرْكِ وآخره اتقاء كل غير، وأولُ الأغيار لك نفسُكَ، ومَنْ اتَّقَى نفسه وقف مع الله بلا مقام ولا شهود حال، و(وقف) لله.. لا لشهود حظِّ في الدنيا والعقبى.
قوله: {الَّذِى خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ}: وهو آدم عليه السلام، وإذا كنا مخلوقين منه وهو مخلوق باليد فنحن أيضًا كذلك، لمَّا ظهرت مزية آدم عليه السلام به على جميع المخلوقين والمخلوقات فكذلك وصفُنا، قال تعالى: {أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ البَرِيَّةْ} [البيّنة: 7].
ولفظ النفس للعموم والعموم يوجب الاستغراق.
قوله: {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا}: حَكَمَ الحقُّ سبحانه بمساكنة الخلق مع الخلق لبقاء النسل، ولردِّ المِثْل إلى المِثْل فربَطَ الشكلَ بالشكلِ.
قوله: {وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً}: تعرَّف إلى العقلاء على كمال القدرة بما ألاح من براهين الربوبية ودلالات الحكمة؛ حيث خَلق جميع هذا الخلق من نسل شخصٍ واحدٍ، على اختلاف هيئتهم، وتفاوت صورهم، وتباين أخلاقهم، وإن اثنين منهم لا يتشابهان، فلكلٍ وجه في الصورة والخلق، والهمة والحالة، فسبحان من لا حدَّ لمقدوراته ولا غاية لمعلوماته.
ثم قال: {واتَّقُوا اللهَ} تكريرالأمر بالتقوى يدلُّ على تأكيد حكمه.
وقوله: {تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ}: أي اتقوا الأرحام أن تقطعوها، فَمَنْ قَطَعَ الرحمَ قُطِع، ومَنْ وَصَلَها وَصَل.
{إنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}: مطلعًا شهيدًا، يعدُ عليك أنفاسكَ، ويرى حواسَك، وهو مُتَوَّلٍ خطراتِك، ومنشئٌ حركاتِك وسكناتِك. ومَنْ عَلِمَ أنه رقيب عليه فبالحريِّ أن يستحيَ منه. اهـ.

.من فوائد صاحب المنار في الآية الكريمة:

قال رحمه الله:
سُورَةُ النِّسَاءِ (وَهِيَ السُّورَةُ الرَّابِعَةُ، وَآيَاتُهَا مِائَةٌ وَسَبْعُونَ وَسَبْعُ آيَاتٍ فِي الْعَدِّ الشَّامِيِّ، وَسِتٌّ فِي الْكُوفِيِّ، وَعَلَيْهِ مَصَاحِفُ الْآسِتَانَةِ، وَمِصْرَ، وَخَمْسٌ فِي الْمَكِّيِّ وَالْمَدَنِيِّ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي، وَعَلَيْهِ مُصْحَفُ فَلَوْجَلَ. فَالْخِلَافُ فِي فَاصِلَتَيْنِ).
أَقُولُ: وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ كُلُّهَا. فَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: مَا نَزَلَتْ سُورَةُ النِّسَاءِ إِلَّا وَأَنَا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِنَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَنَى بِعَائِشَةَ فِي الْمَدِينَةِ، قِيلَ: فِي السَّنَةِ الْأُولَى مِنَ الْهِجْرَةِ، وَهُوَ الرَّاجِحُ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي شَوَّالٍ. أَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: أَعْرَسَ بِي عَلَى رَأْسِ ثَمَانِيَةِ أَشْهُرٍ أَيْ مِنَ الْهِجْرَةِ. وَقِيلَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: كُلُّهَا مَدَنِيَّةٌ إِلَّا آيَةً وَاحِدَةً نَزَلَتْ بِمَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ فِي عُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ، وَهِيَ قَوْلُهُ: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [4: 58]، وَسَيَأْتِي ذَلِكَ فِي مَحَلِّهِ. وَزَعَمَ النَّحَّاسُ أَنَّهَا كُلَّهَا مَكِّيَّةٌ لِمَا وَرَدَ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ قِصَّةِ مِفْتَاحِ الْكَعْبَةِ، وَهُوَ وَهْمٌ بَعِيدٌ، وَاسْتِدْلَالٌ بَاطِلٌ، فَإِنَّ نُزُولَ آيَةٍ مِنَ السُّورَةِ فِي مَكَّةَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ لَا يَقْتَضِي كَوْنَ السُّورَةِ كُلِّهَا مَكِّيَّةً، عَلَى أَنَّ بَعْضَ الرِّوَايَاتِ فِي وَاقِعَةِ الْمِفْتَاحِ تُشْعِرُ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ الْآيَةَ مُحْتَجًّا، وَمُبَيِّنًا لِلْحُكْمِ فِيهَا. فَفِي رِوَايَةِ ابْنِ مَرْدَوَيْهِ أَنَّهُ بَعْدَ أَنْ أَخَذَ الْمِفْتَاحَ مِنْ عُثْمَانَ، وَفَتَحَ الْكَعْبَةَ، وَأَزَالَ مِنْهَا تِمْثَالَ إِبْرَاهِيمَ، وَالْقِدَاحَ الَّتِي كَانُوا يَسْتَقْسِمُونَ بِهَا، عَادَ فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ وَقَرَأَ الْآيَةَ. وَلَعَلَّ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ يَوْمَئِذٍ اسْتَنْبَطَ ذَلِكَ مِنْ قِرَاءَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهَا.
ثُمَّ إِنَّهُ يُنْظَرُ فِي التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْمَكِّيِّ وَالْمَدَنِيِّ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: بَيَانُ الْوَاقِعِ، وَتَحْدِيدُ التَّارِيخِ بِالتَّفْصِيلِ إِنْ أَمْكَنَ، وَلَا فَرْقَ فِي هَذَا الْوَجْهِ بَيْنَ مَا نَزَلَ بِمَكَّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ وَبَعْدَهَا.
ثَانِيهِمَا: بَيَانُ شَأْنِ الدِّينِ، وَسُنَّةِ التَّشْرِيعِ وَأُسْلُوبِ الْقُرْآنِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ، وَبَعْدَهَا، وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ رَجَّحَ الْمُحَقِّقُونَ أَنَّ كُلَّ مَا نَزَلَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ فَهُوَ مَدَنِيٌّ، وَلَا يَعْنُونَ بِهَذَا أَنَّهُ نَزَلَ فِي نَفْسِ الْمَدِينَةِ بِالتَّفْصِيلِ كُلُّ آيَةٍ آيَةٍ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَنَّهُ نَزَلَ فِي الزَّمَنِ الَّذِي كَانَتِ الْمَدِينَةُ فِيهِ هِيَ عَاصِمَةَ الْإِسْلَامِ، وَكَانَ لِلْمُسْلِمِينَ فِيهِ قُوَّةٌ تَمْنَعُهُمْ وَنِظَامٌ يَجْمَعُ شَمْلَهُمْ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ حُكْمُ مَا نَزَلَ بِمَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ، أَوْ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ كَحُكْمِ مَا نَزَلَ فِي الْحُدَيْبِيَةِ وَبَدْرٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاضِعِ الَّتِي كَانَ يَخْرُجُ إِلَيْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِغَزْوٍ أَوْ نُسُكٍ عَلَى عَزْمِ الْعَوْدِ إِلَى الْمَدِينَةِ.
يَغْلِبُ فِي السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ الْإِيجَازُ فِي الْعِبَارَةِ وَإِنْ تَكَرَّرَ ذِكْرُهَا لِمَا فِي التَّكْرَارِ مِنَ الْفَوَائِدِ؛ لِأَنَّ الَّذِينَ خُوطِبُوا بِهَا أَوَّلًا هُمْ أَبْلَغُ الْعَرَبِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَإِنَّمَا يَتَبَارَى الْبُلَغَاءُ بِالْإِيجَازِ، وَيَغْلِبُ فِي مَعَانِيهَا تَقْرِيرُ كُلِّيَّاتِ الدِّينِ، وَالِاحْتِجَاجُ لَهَا، وَالنِّضَالُ عَنْهَا، وَهِيَ التَّوْحِيدُ، وَالْبَعْثُ، وَعَمَلُ الْخَيْرِ، وَتَرْكُ الشَّرِّ، وَمُعْظَمُ الْحِجَاجِ فِيهَا مُوَجَّهٌ إِلَى دَحْضِ الشِّرْكِ، وَإِقْنَاعِ الْمُشْرِكِينَ، وَأَمَّا السُّوَرُ الْمَدَنِيَّةُ فَحِجَاجُهَا فِي الْغَالِبِ مَعَ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَالْمُنَافِقِينَ، وَفِيهَا تَفْصِيلُ الْأَحْكَامِ الشَّخْصِيَّةِ، وَالْمَدَنِيَّةِ لِكَثْرَةِ الْمُسْلِمِينَ الْمُحْتَاجِينَ إِلَيْهَا. فَإِذَا فَطِنْتَ لِهَذَا تَجَلَّى لَكَ أَفَنُ رَأْيِ مَنْ قَالَ: إِنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ، وَمَنْ قَالَ أَيْضًا: إِنَّ أَوَائِلَهَا نَزَلَتْ فِي مَكَّةَ، فَلَا شَيْءَ مِنْ أَحْكَامِهَا كَانَ مِمَّا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي مَكَّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ.